فصل: تفسير الآيات رقم (44- 47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم لا يَفتِنَنَّكُمُ الشيطانُ‏}‏؛ بأن يشغلكم عما يقربكم إلى الله، ويحملكم على ما يمنعكم من دخول جنته، ‏{‏كما أخرج أبويكُم من الجنة‏}‏ بسبب غروره، والنهي، في اللفظ، للشيطان، والمراد‏:‏ نهيهم عن اتباعه‏.‏ حال كون أبويكم ‏{‏ينزعُ‏}‏ الشيطان ‏{‏عنهما لباسَهما‏}‏ بسبب غروره لهما، وإسناد النزع إليه‏:‏ مجاز؛ للسببية؛ ‏{‏ليُريهما سوءاتِهما إنه يراكم هو وقبيلُه من حيث لا تَرونهم‏}‏، وهو تعليل للنهي‏.‏ وتحذير من فتنته، و‏{‏قبيله‏}‏‏:‏ جنوده‏.‏ ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا يقتصي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا، وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة؛ فتحمل الآية على الأكثر والغالب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا الشياطينَ أولياءَ للذين لا يؤمنون‏}‏؛ بما أوجدنا بينهم من التناسب، أو بإرسالهم عليهم، وتمكينهم من خذلانهم، وحملهم على ما سولوا لهم، والآية هي مقصود القصة وفذلكة الحكاية‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ الحكمة في خلق الشيطان هي كونه منديلاً تمسح فيه أوساخ الأقدار، وكونه يحوش أولياء الله إلى الله، كلما نخسهم بنزعه فزعوا إلى مولاهم، فلا يزال بهم كذلك حتى يوصلهم إلى حضرته، فحينئذٍ ينقاد إليهم، ويخدمهم بأولادهم‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده»‏.‏

قال محمد بن واسع‏:‏ تمثل إلى الشيطان في طريق المسجد، فقال لي‏:‏ يا ابن واسع، كلما أردتك وجدت بيني وبينك حجابًا، فما ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أقرأُ، كلما أصبحتُ‏:‏ اللهم إنك سلطت علينا عدوًا من أعدائنا، بصيرًا بعيوبنا، مطلعًا على عوراتنا، يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، اللهم آيسه منا كما آيسته من رحمتك، وقنطه منا كما قنطته من عفوك، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بين المشرق والمغرب وفي رواية‏:‏ كما باعدت بينه وبين جنتك إنك على كل شيء قدير‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ‏(‏29‏)‏ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في وصف المشركين‏:‏ ‏{‏وإذا فعلوا فاحشة‏}‏ أي‏:‏ فعلة متناهية في القبح؛ كعبادة الصنم، وكشف العورة في الطواف، احتجوا بفعل آبائهم فقالوا‏:‏ ‏{‏وجَدنَا عليها آباءنا واللهُ أمرنَا بها‏}‏ فاعتذروا بعذرين باطلين‏:‏ أحدهما‏:‏ تقليد آبائهم، والآخر‏:‏ افتراؤهم على الله، فأعرض عن الأول؛ لظهور فساده، ورد الثاني بقوله‏:‏ ‏{‏قل إنَّ الله لا يأمرُ بالفحشاء‏}‏؛ لأن الله تعالى جرت عادته على الأمر بمحاسن الأفعال ومكارم الخلال‏.‏ ولا حجة فيه للمعتزلة‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

والآية كأنها جواب سؤالين مترتبين؛ كأنه قيل لهم‏:‏ لِمَ فعلتم هذه الفواحش‏؟‏ قالوا‏:‏ وجدنا آباءنا، فقيل‏:‏ ومن أين أخذها آباؤكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الله أمرنا بها، فكذبهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏، أي‏:‏ أتتقولون على الله ما لا علم لكم به؛ إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله‏.‏

‏{‏قل أمرَ ربي بالقسط‏}‏ أي‏:‏ العدل، وهو الوسط من كل أمر، المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط، وأمر بأن قال‏:‏ ‏{‏وأقيموا وجوهَكم عند كل مسجد‏}‏ أي‏:‏ افعلوا الصلاة في كل مكان يمكن في السجود إذا حضرتكم، ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم‏.‏ والمعنى‏:‏ إباحة الصلاة في كل موضع، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جُعِلَت لِيَ الأرضُ مَسجدًا وَطَهورًا» وقيل‏:‏ المراد إحضار النية والإخلاص لله في كل صلاة بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وادعوه‏}‏؛ أي‏:‏ اعبدوه ‏{‏مخلصين له الدين‏}‏ أي‏:‏ الطاعة، فلا تعبدوا معه غيره، فإنكم راجعون إليه، ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ فيجازيكم على أعمالكم، فاحتج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى؛ لاشتراكهما في تعلق القدرة بهما، بل العود أسهل باعتبار العادة، وقيل‏:‏ كما بدأكم من التراب، تعودون إليه، وقيل‏:‏ كما بدأكم حفاة عراة غرلاً، تعودون، وقيل‏:‏ كما بدأكم مؤمنًا وكافرًا، يُعيدكم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏فريقًا هدى‏}‏؛ بأن وفقهم للإيمان، ‏{‏وفريقًا حق عليهم الضلالة‏}‏؛ بمقتضى القضاء السابق، أي‏:‏ خذل فريقًا حق عليهم الضلالة، ‏{‏إنهم اتخذوا الشياطينَ أولياءَ‏}‏ يطيعونهم فيما يأمرونهم به، ‏{‏من دون الله‏}‏، وهذا تعليل لخذلانهم وتحقيق لضلالتهم، ‏{‏وَيحسَبُون‏}‏ أي‏:‏ يظنون ‏{‏أنهم مهتدون‏}‏؛ فهم على جهل مركب، وفيه دليل على أن الكافر المخطىء والمعاند‏:‏ سواء في الذم واستحقاق العذاب؛ إذ لا يعذر بالخطأ في أمر التوحيد‏.‏

الإشارة‏:‏ تقليد الآباء في المساوىء من أقبح المساوىء، واحتجاج العبد بتخليته مع هواه هو ممن اتخذ إلهه هواه، إن الله لا يأمر بالفحشاء، فإذا قال العبد في حال انهماكه‏:‏ هكذا أحبني ربي، فهو خطأ في الاحتجاج؛ بل يجاهد نفسه في الإقلاع، ويتضرع إلى مولاه في التوفيق؛ فإن الحق تعالى إنما يأمر بالعدل والإحسان، ودوام الطاعة والإذعان، والخضوع لله في كل زمان ومكان، والتحقق بالإخلاص في كل أوان، وإفراد المحبة والولاية للكريم المنان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم خُذوا زينتكم‏}‏ أي‏:‏ ثيابكم التي تستر عورتكم، ‏{‏عند كل مسجدٍ‏}‏ لطواف أو صلاة، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة، ومن السًّنة أن يأخذ الرجل أحسن ثيابه للصلاة، وقيل‏:‏ المراد بالزينة‏:‏ زيادة على الستر، كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب، ‏{‏وكُلوا واشربوا‏}‏؛ أمر إباحة؛ لِمَا رُوِي أن بني عامر، في أيام الحج، كانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتًا، ولا يأكون دسمًا؛ يعظمون بذلك حجهم، وهَمَّ المسلمون بذلك، فنزلت‏.‏

‏{‏ولا تُسرفوا‏}‏؛ بتحريم الحلال، أو بالتقدم إلى الحرام، أو بإفراط الطعام والشره إليه، وقد عَدَّ في الإحياء من المهلكات‏:‏ شره الطعام، وشره الوقاع، أي‏:‏ الجماع‏؟‏ ‏{‏إنه لا يحب المسرفين‏}‏؛ لا يرتضي فعلهم‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏كُل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان‏:‏ سَرفٌ ومخيلة‏)‏ أي‏:‏ تكبر‏.‏ وقال علي بن الحسين بن واقد‏:‏ جمع الله الطب في نصف آية؛ فقال‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما أمر الحقّ جلّ جلاله بالتزين للصلاة والطواف؛ لأن فيهما الوقوف بين يدي ملك الملوك، وقد جرت عادة الناس في ملاقاة الملوك‏:‏ التهيىء لذلك بما يقدرون عليه من حسن الهيئة؛ لأن ذلك زيادة تعظيم للملك، وتزيين البواطن بالمحبة والوداد أحسن من تزيين الظواهر وخراب البواطن؛ «إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلَى صُوَرِكُم ولاَ إلى أموَالِكُم، وإنَّمَا يَنظُرُ إلَى قُلوبِكُم وأعمَالِكُم» وملاقاة الملك بالذل والانكسار أحسن من ملاقاته بالتكبر والاستظهار‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏32‏)‏ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ‏:‏ ‏{‏خالصة‏}‏؛ بالرفع، فخبر بعد خبر، أو خبر عن مضمر، ومن قرأ بالنصب، فحال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏مَن حرَّم زينةَ اللهِ‏}‏؛ وهي ما يتجمل به من الثياب وغيرها، ‏{‏التي أخرج لعباده‏}‏ من النبات؛ كالقطن والكتان، أو الحيوان؛ كالحرير والصوف والوبر، والمعادن؛ كالدروع والحلي، ‏{‏و‏}‏ قل أيضًا‏:‏ من حرم ‏{‏الطيبات مِنَ الرزقِ‏}‏ أي‏:‏ المستلذات من المآكل والمشارب، ويدخل فيها المناكح؛ إذ هي من أعظم الطيبات‏.‏ وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات‏:‏ الإباحة؛ لان الاستفهام للإنكار، وبه رد مالك رحمه الله على من أنكر عليه من الصوفية، وقال له‏:‏ اتق الله يا مالك؛ بلغني أنك تلبس الرقيق، وتأكل الرقاق، فكتب إليه بالآية‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏، ويشاركهم فيها الكفار، ويوم القيامة تكون ‏{‏خالصة‏}‏ لهم دون غيرهم، ‏{‏كذلك نُفصّل الآياتِ‏}‏ أي‏:‏ كتفصيلنا هذا الحكم نُفصل سائر الأحكام ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏ فينزلونها في محلها بخلاف الجهال‏.‏

‏{‏قل إنما حرَّم ربي الفواحشَ‏}‏؛ وهي ما تزايد قبحها من المعاصي، وقيل‏:‏ ما يتعلق بالفروج، ‏{‏ما ظهرَ منها وما بَطَنَ‏}‏ أي‏:‏ جهرها وسرها، أو ما يتعلق بالجوارح الظاهرة والعوالم الباطنية وهي القلوب، ‏{‏والإثم‏}‏؛ كقطع الرحم، أو عام في كل ذنب، ‏{‏والبغيَ‏}‏؛ وهو الظلم؛ كقطع الطريق والغصب، وغير ذلك من ظلم العباد، أو التكبر على عباد الله؛ وقوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏‏:‏ تأكيد له في المعنى‏.‏ ‏{‏وأن تُشركوا الله ما لم يُنزل به سُلطانًا‏}‏ أي‏:‏ حجة على استحقاق العبادة، وهو تهكم بالمشركين، وتنبيهٌ على تحريم ما لم يدل عليه برهان‏.‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ من الإلحاد في صفاته، والافتراء عليه؛ كقولهم‏:‏ ‏{‏وَاللهُ أَمَرَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، و‏{‏لَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 148‏]‏‏.‏

‏{‏ولكل أمة أجل‏}‏ أي‏:‏ مدة ووقت لنزول العذاب بها إن لم يؤمنوا، وهو تهديد لأهل مكة، ‏{‏فإذا جاء أجَلُهم‏}‏ أي‏:‏ انقرضت مدتهم، أو دنى وقت هلاكهم، ‏{‏لا يستأخرون ساعةَ‏}‏ عنه ‏{‏ولا يستقدمون‏}‏ أي‏:‏ لا يتأخرون ولا يتقدمون عنه أقصَر وقت، أو لا يطيقون التقدم والتأخر لشدة الهول، وجعل بعضهم‏:‏ ‏{‏ولا يستقدمون‏}‏ استئنافًا؛ لأن الأجل إذا جاء لا يتصور التقدم، وحينئذٍ يوقف على‏:‏ ‏{‏ساعة‏}‏، ثم يقول‏:‏ ولا هم يستقدمون عنه قبل وصوله‏.‏

الإشارة‏:‏ قال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه‏:‏ زينة الله التي أظهر لعباده هي لباس المعرفة، وهو نور التجلي، والطيبات من الرزق هي حلاوة الشهود‏.‏ ه‏.‏ وهي لمن كمل إيمانه وصِدقه في الحياة الدنيا، وتصفو له إلى يوم القيامة، فهي حلال على أهل التجريد؛ يتمتعون بها في الدارين، وإنما حرّم عليهم ما يشغلهم عن ربهم من جهة الظاهر، وما يقطعهم عن شهوده من جهة الباطن، وسوء الأدب مع الله، والتعرض لعباد الله، والشرك بالله؛ بأن يشهدوا معه سواه، وأن يقولوا على الله ما يوهم نقصًا أو خللاً في أنوار جماله وسناه‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين ينبغي لهم أن يزهدوا في زينة الدنيا وطيباتها؛ لئلا تركن إليها نفوسهم، فيثبط سيرهم، وأما الواصلون فهم مع الله، لا مع شيء سواه، يأخذون من الله بالله، ويدفعون بالله، وقد اتسعت دائرة علمهم، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع، هم مع ما يبرز في الوقت من المقدورات‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إما‏}‏‏:‏ شرط مؤكد بما ذكره بحرف الشك؛ للتنبيه على أن إتيان الرسل جائز، غير واجب، كما ظنه المعتزلة، وجوابه‏:‏ ‏{‏فمن اتقى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، وإدخال الفاء في الجواب الأول دون الثاني؛ للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم‏}‏ مهما ‏{‏يأتينكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي‏}‏ الدالة على توحيدي ومعرفتي، ‏{‏فمن اتَّقَى‏}‏ الشرك والتكذيب، و‏{‏أصلح‏}‏ فيما بيني وبينه، منكم، بالعمل الصالح، ‏{‏فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏ ‏{‏والذين كذّبوا بآياتنا واستكبرُوا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏، فمِن كمال الإيمان‏:‏ أن يقدر الإنسان نفسه أن لو كان في زمان كل رسول، لكان أول من تبعه، ولكان من خواص أصحابه، هكذا يسير بعقله مع كل رسول من زمان آدم عليه السلام إلى مبعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد جعل الله لكل نبي خلفاء يخلفونه في تبليغ أحكامه الظاهرة والباطنة، وهم العلماء الأتقياء، والأولياء العارفون الأصفياء، فمن أراد أن يكون ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فليتبع علماء أهل زمانه في الشريعة، وأولياء أهل عصره في تربية الحقيقة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فمن أظلمُ ممن افترى على الله كذبًا‏}‏؛ بأن نسب إليه الولد والشريك، ‏{‏أو كذَّب بآياته‏}‏ التي جاءت بها الرسل من عنده، أي‏:‏ لا أحد أظلم منه، أو تَقوَّل على الله ما لم يقله، وكذّب بما قاله، ‏{‏أولئك ينالُهم نصيبُهم من الكتاب‏}‏ أي‏:‏ يلحقهم نصيبهم مما كتب في اللوح المحفوظ؛ من الأرزاق والآجال، ‏{‏حتى إذا‏}‏ انقضت أعمارهم و‏{‏جاءتُهم رسلُنا يَتوفَّونهم‏}‏ أي‏:‏ يتوفون أرواحهم، ‏{‏قالوا‏}‏ لهم توبيخًا‏:‏ ‏{‏أين ما كنتم تدّعون من دون الله‏}‏ أي‏:‏ أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؛ لتدفع عنكم العذاب‏؟‏ ‏{‏قالوا ضلُّوا عنا‏}‏؛ غابوا عنا ‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏، اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه، وندموا حيث لم ينفع الندم، وقد زلت بهم القدم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من أعرض عن خصوص أهل زمانه واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، ينال نصيبه من الدنيا الفانية وما قُسِم له فيها؛ فإذا جاءت منيته ندم وتحسر، وقيل له‏:‏ أين ما تمتعت به وشغلك عن مولاك‏؟‏ فيقول‏:‏ قد غاب ذلك وفنى وانقضى، وكأنما كان برقًا سَرَى، أو طَيفَ كَرَى، والدهر كله هكذا؛ لمن سدد نظرًا، وعند الصباح يحمد القوم السُّرَى، وستعلم، إذا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه‏:‏ «لا تَخدَعَنَّكُم زخارفُ دُنيا دَنِيَّة، عن مَراتب جَنَّاتٍ عَالِية؛ فكان قد كِشفَ القِناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرىءٍ مستقَرِّه، وعرف مثواه ومُنَقَلَبه» وفي حديث آخر‏:‏ «مَن بدأ بَنَصِيبه من الدنيا فَاتَه نصيبُه من الآخرة، ولم يُدرك منها ما يريد، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة، وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ الله تعالى أي‏:‏ يوم القيامة للكفارٍ، بواسطة ملك، أو بغيرها‏:‏ ‏{‏ادخلوا في‏}‏ جملة ‏{‏أممٍ‏}‏ كانوا من قبلكم؛ ‏{‏من الجن والإنس‏}‏ متفقين معكم في الكفر والضلال، فادخلوا مصاحبين معهم ‏{‏في النار‏}‏‏.‏ قال تعالى، مخبرًا عن حالهم‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أمةٌ‏}‏ منهم في النار ‏{‏لعنت أختها‏}‏ التي ضلت بالاقتداء بها، ‏{‏حتى إذا أدَّاركوا‏}‏ أي‏:‏ تداركوا وتلاحقوا، ‏{‏فيها جميعًا قالت أُخراهم‏}‏؛ دخولاً أو منزلة، وهم الأتباع السفلة، ‏{‏لأُولاهم‏}‏ وهم المتبوعون الرؤساء أي‏:‏ قالت لأجلهم؛ لأن الخطاب مع الله لا معهم، قالوا‏:‏ ‏{‏ربنا هؤلاء‏}‏ الرؤساء ‏{‏أضلونا‏}‏؛ حيث سنُّوا لنا الضلال فاقتدينا بهم، ‏{‏فآتِهم عذابًا ضِعفًا‏}‏ أي‏:‏ مضاعفًا ‏{‏من النار‏}‏؛ لأنهم ضلوا وأضلوا‏.‏ ‏{‏قال‏}‏ تعالى‏:‏ ‏{‏لكلٍّ‏}‏ واحد منكم ‏{‏ضِعفٌ‏}‏ أي‏:‏ عذابًا مضعفًا، أما القادة؛ فلكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع؛ فلكفرهم وتقليدهم، ‏{‏ولكن لا تعلمون‏}‏ ما لكم، أو ما لكل فريق منكم‏.‏

‏{‏وقالت أُولاهم لأُخراهم‏}‏ أي‏:‏ المتبوعون للأتباع‏:‏ ‏{‏فما كان لكم علينا من فضل‏}‏ في الإيمان والتقوى تُوجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم، حتى يتضاعف علينا العذاب دونكم؛ فإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب، ‏{‏فذوقوا‏}‏ أي‏:‏ باشروا ‏{‏العذاب بما كنتم تكسبون‏}‏؛ هو من قول القادة، أو من قول الله تعالى لجميعهم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا قامت القيامة تحققت الحقائق، وتميزت الطرائق، للخاص والعام، فيرتفع المقربون في أعلى عليين، ويبقى أهل اليمين في أسفل منازل أهل الجنة مع عوام المسلمين، فيتعلق عوامهم بخواصهم، فيقولون لهم‏:‏ أنتم رددتمونا عن صحبة هؤلاء، وأنتم خذلتمونا عنهم، ثم يقولون‏:‏ ربنا هؤلاء أضلونا عن صحبة هؤلاء المقربين، فآتهم حجابًا ضعفًا مما لنا، قال‏:‏ لكل ضِعف من الحجاب، هم بتضليلهم لكم عن صحبتهم، وأنتم بتقليدكم لهم، ولكن لا تعلمون ما أعددت للمقربين حين صبروا على جفاكم، وتحملوا مشاق طاعتي ومعرفتي؛ لأن كل آية في الكفر تجر ذيلها على أهل الغفلة من المؤمنين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏سَمّ الخياط‏}‏‏:‏ عين الإبره، وفي السين‏:‏ الفتح والكسر والضم، والخياط‏:‏ ما يخاط به، على وزن حِزام، والتنوين في ‏{‏غواشٍ‏}‏‏:‏ للعوض عن الياء، عند سيبويه، وللصرف عند غيره‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين كذَّبوا بآياتنا واستكبروا‏}‏ عن‏:‏ الإيمان بها، ‏{‏لا تُفتَّح لهم أبوابُ السماء‏}‏؛ لأدعيتهم وأعمالهم؛ فلا تقبل، أو لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا، بل تغلق دونها إذا وصلت بها الملائكة إليها، فيطرحونها فتسقط من السماء، بخلاف أرواح المؤمنين؛ تُفتح لهم أبواب السماء حتى يفضوا إلى سدرَة المنتهى‏.‏ ‏{‏ولا يدخلون الجنة حتى يَلجَ‏}‏ أي‏:‏ يدخل، ‏{‏الجمَلُ‏}‏ وهو البعير ‏{‏وفي سَمِّ الخِياط‏}‏ أي‏:‏ في ثقب الإبرة، والمعنى‏:‏ لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدًا، فلا يدخلون الجنة أبدًا، وقرأ ابن عباس ‏{‏الجُمل‏}‏، بضم الجيم وسكون الميم، وهو حبل السفينة، الذي جُمِعَ بعضُه إلى بعض حتى صار أغلظ ما يكون‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نَجزي المجرمين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين، ‏{‏لهم من جهنم مهادٌ‏}‏ أي‏:‏ فراش، ‏{‏ومِن فوقهم غَوَاشٍ‏}‏ أي‏:‏ أغطية من النار‏.‏ ‏{‏وكذلك نجزي الظالمين‏}‏ عبَّر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى؛ إشعارًا بأنهم بتكذيبهم الآيات، اتصفوا بالجرم والظلم، وذكر مع الحرمان من الجنة‏:‏ الجرم، ومع التعذيب بالنار‏:‏ الظلم؛ تنبيهًا على أن الظلم أعظم الإجرام‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل التربية النبوية من الشيوخ العارفين‏:‏ آية من آيات الله، من كَذَّب بهم، واستكبر عن الخضوع لهم، لا تفتح لفكرته أبواب السماء، بل يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، ولا يدخل جنة المعارف أبدًا، بل يحيط به الحجاب من فوقه ومن أسفله، فتنحصر روحه في الأكوان، ولم تفض إلى فضاء الشهود والعيان‏.‏

وفي الحِكَم‏:‏ «الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته»‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ «وسعك الكون من حيث جثمانيتك، ولم يَسعَك من حيث ثبوتُ روحانيِتك»، فكل من لم تثبت له الروحانية‏:‏ فهو محصور في الكون، وكل من ثبتت له الروحانية؛ بأن استولى معناه على حسه، لم يسعه الكون، ولم يحصره عرش ولا فرش، وكذلك الصوفي؛ لا تظله السماء ولا تقله الأرض، أي‏:‏ لا يحصره الكون من حيث فكرتُهُ‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة ‏{‏لا نُكلف‏}‏‏:‏ معترضة بين المبتدأ والخبر؛ للترغيب في اكتساب النعيم المقيم، بما تسعه طاقتهم، ويسهل عليهم، و‏{‏ما كنا لنهتدي‏}‏‏:‏ اللام لتأكيد النفي، وجواب «لولا»‏:‏ محذوف، أي‏:‏ لولا هدايته إيانا ما اهتدينا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ بالرسل، ‏{‏وعملوا‏}‏ الأعمال ‏{‏الصالحات‏}‏ على قدر طاقتهم، ‏{‏لا نكلِّف نفسًا إلا وُسعَها‏}‏ أي‏:‏ ما تسعه طاقتها، فمن فعل ذلك ف ‏{‏أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ‏}‏ أي‏:‏ نُخرج مِن قلوبهم كل غل وعدواة، ونطهرها منه، حتى لا يكون بينهم إلا التودد، فيصيرون أحبابًا وإخوانًا، وإما عبّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه، كأنه وقع ومضى، وكذلك ما يجيء بعدها، ثم وصف الجنة فقال‏:‏ ‏{‏تجري من تحتهم‏}‏ أي‏:‏ من تحت قصورهم، ‏{‏الأنهارُ‏}‏؛ من عسل وخمر وماء ولبن؛ زيادة في لذتهم وسرورهم، فالقصور مرتفعة في الهواء، والأنهار تجري تحتها‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ حينئذٍ‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي هدانا لهذا‏}‏ أي‏:‏ لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان في الدنيا والعمل الصالح، ‏{‏وما كنا لنهتدي‏}‏ بأنفسنا ‏{‏لولا أن هدانا الله‏}‏ بتوفيقه وإرادته، ‏{‏لقد جاءت رُسلُ ربنا بالحق‏}‏ فاهتدينا بإرشادهم، يقولون ذلك اغتباطًا وتبجحًا بأن ما عملوه في الدنيا يقينًا، صار لهم عين اليقين في الآخرة، ‏{‏ونُودوا‏}‏ أي‏:‏ نادتهم الملائكة، أو الحق تعالى‏:‏ ‏{‏أن تلكُم الجنةُ‏}‏ أي‏:‏ هذه الجنة ‏{‏أُورِثتُموها‏}‏ أي‏:‏ أُعطِيتموها ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ أي‏:‏ بسبب أعمالكم، وهذا باعتبار الشريعة، وأما باعتبار الحقيقة فكل شيء منه وإليه‏.‏ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَن يُدخِلَ الجنَّةَ أحدَكم عَمُلهُ، قالوا‏:‏ ولا أنت، قال‏:‏ ولا أنا، إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ الله برحمَتِه» فالشريعة تنسب العمل للعبد، والحقيقة تعزله عنه، وقد آذنت بها الآية قبله بقوله‏:‏ ‏{‏وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏}‏، فقد نطقوا بما تحققوا به يوم القيامة‏.‏

وقال القشيري‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏{‏أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏؛ تسكينًا لقلوبهم، وتطييبًا لهم، وَإلاَّ، فإذا رأوا تلك الدرجات، علموا أن أعمالهم المشوبة لم تبلغ تلك الدرجات‏.‏ ه‏.‏ وعن ابن مسعود أنه قال‏:‏ ‏(‏يجوزون الصراط بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويقتسمون المنازل بأعمالهم‏)‏‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ والذين آمنوا بطريق الخصوص، وعملوا الأعمال التي تناسبها، من خرق العوائد واكتساب الفوائد، والتخلية من الرذائل والتحلية بأنواع الفضائل على حسب الطاقة؛ أولئك أصحاب جنة المعارف، هم فيها خالدون في الدنيا والآخرة، قد نزع الله من قلوبهم المساوىء والأكدار، وطَهَّرها من جملة الأغيار، حتى صاروا إخوانًا متحابين؛ لا لَغوَ بينهم ولا تأثيم، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم، وتفتح لهم مخازن الفهوم، فإذا تمكنوا من هذه الحضرة ‏(‏قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏)‏، تحققوا أنهم محمولون بسابق العناية، محفوفون بعين الرعاية، فتحققوا بما جاءت به الرسل من عند الله، وما نالوه على يد أولياء الله من الذوق والوجدان، وكشف الغطاء عن عين العيان، منحنا الله من ذلك حظًا وافرًا، بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 47‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن‏}‏‏:‏ في هذه المواضع؛ مخففة من الثقيلة، أو‏:‏ تفسيرية، وحذف مفعول‏:‏ ‏{‏وعد‏}‏ الثاني؛ استغناء بمفعول وعد الأول، أو لإطلاق الوعد، فيتناول الثواب والعقاب‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ونادى أصحابُ الجنةِ أصحاب النار أن قد وجَدَنا ما وعدنا ربُّنا‏}‏ من النعيم ‏{‏حقًا فهل وجدتم‏}‏ أنتم ‏{‏ما وَعَدَ ربُّكم‏}‏ من البعث والحساب ‏{‏حقًا‏}‏، إنما قال أهل الجنة ذلك؛ تبجحًا بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وتحسيرًا لهم، فأجابهم أهل النار بقولهم‏:‏ ‏{‏نعم‏}‏، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، ‏{‏فأذن مؤذن بينهم‏}‏ بين الفريقين‏:‏ ‏{‏أن لعنةُ الله على الظالمين‏}‏؛ الكافرين، ‏{‏الذين يصدُّون‏}‏ الناس ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ وهي الإسلام، ‏{‏ويبغونها‏}‏ أي‏:‏ يطلبون بها ‏{‏عِوجًا‏}‏، زيغًا وميلاً عما هو عليه من الاستقامة، أو يطلبونها أن تكون ذات عوج، ‏{‏وهم بالآخرة كافرون‏}‏ أي‏:‏ جاحدون‏.‏

‏{‏وبينهما‏}‏ أي‏:‏ بين الفريقين ‏{‏حجابٌ‏}‏، أو بين الجنة والنار حجاب، يمنع دخول أثر أحدهما للأخرى، ‏{‏وعلى الأعراف‏}‏؛ وهو السور المضروب بين الجنة والنار، ‏{‏رجالٌ‏}‏؛ طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيئاتهم، كما في الحديث‏.‏ وقال في الإحياء‏:‏ يشبه أن يكونوا من لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، فلم تكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية، فلا وسيلة تقربهم، ولا جناية تبعدهم، ولهم السلامة فقط، لا تقريب ولا تبعيد‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ لكن سيأتي أنهم يدخلون الجنة‏.‏

ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏يعرفون كُلاًّ‏}‏ من أهل الجنة والنار، ‏{‏بسيماهم‏}‏‏:‏ بعلامتهم التي أعلمهم الله بها؛ كبياض الوجوه من أهل الجنة، وسوادها في أهل النار، أو غير ذلك من العلامات‏.‏ ‏{‏ونادوا أصحابَ الجنة‏}‏، إذا نظروا إليهم، فقالوا لهم‏:‏ ‏{‏أن سلامٌ عليكم‏}‏، أي‏:‏ نادوهم بالسلام عليهم، ‏{‏لم يدخلوها‏}‏ أي‏:‏ الجنة، ‏{‏وهم يطمعون‏}‏ في دخولها‏.‏

‏{‏وإذا صُرِفت أبصارُهم تلقاءَ أصحابِ النار‏}‏ أي‏:‏ التفتوا إليهم على وجه القلة، تعوذوا من حالهم، ‏{‏قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين‏}‏ في النار‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العي الكبير؛ نادوا أهلَ البطالة والتقصير، فقالوا لهم‏:‏ قد وجدنا ما وعدنا ربنا؛ من كشف الحجاب والدخول مع الأحباب، حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا كما وجدنا نحن‏؟‏ قالوا على وجه الدعوى والغلط‏:‏ نعم، فأذن مؤذن بينهم، بلسان الحال‏:‏ أن لعنة الله على الظالمين؛ الذين بقوا مع حظوظ أنفسهم، ولم يخرقوا شيئًا من عوائدهم، مع تراميهم على مراتب الرجال، وادعائهم بلوغ غاية الكمال، الذين يصدون عن طريق الخصوص ويبغونها عوجًا، وهم بالخصلة الآخرة وهي إشراق نور الحقيقة على أهل التربية هم كافرون، وبينما حجاب كبير، وهو حجاب الغفلة، فلا يعرفون أهل اليقظة، وهم أهل مقام الإحسان، بل بينهما مفاوز ومهَامِه، كما قال الشاعر‏:‏

تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا *** فَمِن أين يَدري النَّاسُ أينَ توجَّهنَا

وعلى الأعراف؛ وهو البرزخ الذي بين الحقيقة والشريعة، رجال من أهل الاستشراف، يعرفون كلاًّ من العوام والخواص بسيماهم، ونادروا أصحاب الجنة أي‏:‏ الواصلين إلى جنة المعارف‏:‏ أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون، لأنهم في حالة السير وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار، أي‏:‏ نار الحجاب والتعب، وهم العوام، قالوا‏:‏ ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ما أغنى‏}‏ استفهامية أو نافية، و‏{‏ما كنتم‏}‏‏:‏ مصدرية، و‏{‏ادخلوا‏}‏‏:‏ محكى بقول محذوف، أي‏:‏ قيل لهم ادخلوا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحقٌ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ونادى أصحابُ الأعراف رجالاً‏}‏ من رؤساء الكفرة، ‏{‏يعرفونهم بسيماهم‏}‏؛ بعلامة فيهم من سوء حالهم، ‏{‏قالوا‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏ما أغنى عنكم جمعكم‏}‏ أي‏:‏ كثرتكم، أو جمعكم للمال، شيئًا أو أيّ شيء أغنى عنكم جمعكم، ‏{‏وما كنتم تستكبرون‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ واستكباركم‏؟‏ ‏{‏أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالُهم اللهُ برحمةٍ‏}‏ وهم ضعفاء المسلمين الذين كانت الكفرة تستحقرهم في الدنيا، ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، قد قيل لهم‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون‏}‏‏.‏ أو تقول الملائكة لأهل الأعراف‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون‏}‏، بعد أن حُبسوا على الأعراف حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم، وقالوا لهم ما قالوا، تفضل الله عليهم، فقيل لهم‏:‏ ادخلوا الجنة‏.‏

وقيل‏:‏ لما عيَّر أصحابُ الأعراف أهل النار، أقسموا أي‏:‏ أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة، فقال لهم الله تعالى‏:‏ ‏{‏أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم برحمة ادخلوا‏}‏ يا أهل الأعراف ‏{‏الجنة‏}‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أصحاب الأعراف‏:‏ قوم من الصالحين حصل لهم محبة القوم، ليسوا من عوام أهل اليمين ولا من خواص المقربين، فإذا نظروا إلى أهل الطعن على الفقراء المتوجهين، والترفع عليهم، قالوا لهم‏:‏ ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم، أهؤلاء الذين كنتم تطعنون عليهم، وأقسمتم أنهم ليسوا على شيء‏؟‏ قد قيل لهم‏:‏ ادخلوا جنة المعارف لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وأنتم حصل لكم الخيبة، والحرمان، والأسر في أيدي النفوس، والحصر في سجن الأكوان‏.‏ عائذًا بالله من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏هدى ورحمة‏}‏‏:‏ حال من مفعول ‏{‏فصَّلناه‏}‏، ‏{‏فيشفعوا‏}‏‏:‏ جواب الاستفهام، ‏{‏أو نُرد‏}‏؛ بالنصب‏:‏ عطف عليه، وبالرفع‏:‏ استئناف، فعلى الأول‏:‏ المسؤول أحد الأمرين؛ إما الشفاعة أو الرد، وعلى الثاني‏:‏ المسؤول الشفاعة فقط‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ونادى‏}‏، يوم القيامة، ‏{‏أصحابُ النار أصحابَ الجنةِ أن أفيضُوا‏}‏ أي‏:‏ صبوا ‏{‏علينا من الماء‏}‏، وفيه دليل على أن الجنة فوق النار، أو‏:‏ صبوا علينا مما رزقكم الله؛ من سائر الأشربة، ليلائم قوله ‏{‏أفيضوا‏}‏، أو‏:‏ من الطعام؛ على حذف الفعل، أي‏:‏ أو أعطونا مما رزقكم الله، ‏{‏قالوا إن الله حرمهما على الكافرين‏}‏، أي‏:‏ منعهما عنهم، ‏{‏الذين إتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا‏}‏؛ كتحريم البحائر والسوائب، والتصدية حول البيت، والطواف به؛ عريانًا، وغير ذلك مما أحدثوه، واللهو‏:‏ صرف القلب إلى ما لا يحصل به نفع أخروي‏.‏ واللعب‏:‏ طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به؛ لخلوه عن منفعة دينية، ‏{‏وغرّتهم الحياة الدنيا‏}‏؛ بأن أنستهم القيامةَ، ‏{‏فاليوم نَنساهُم كما نَسُوا لقاءَ يومهم هذا‏}‏، والكاف‏:‏ أي‏:‏ ننساهم؛ لأجل نسيانهم لقاء يومهم هذا، فلم يخطروه ببالهم، ولم يستعدوا له، ‏{‏وما كانوا بآياتنا يجحدون‏}‏ أي‏:‏ نُهملهم لأجل إهمالهم الاستعداد للقاء، وإهمالهم آياتنا حتى جحدوا أنها من عند الله‏.‏

‏{‏ولقد جِئناهم بكتاب فصّلناه على علمٍ‏}‏ أي‏:‏ بيَّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ، مفصلةً ‏{‏على علم‏}‏، أي‏:‏ عالمين بوجه تفصيله حتى جاء في غاية الإتقان، ‏{‏وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون‏}‏ فإنهم المنتفعون بهدايته ورحمته دون غيرهم‏.‏

‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي‏:‏ ما ينتظر الكفار به ‏{‏إلا تأويلَه‏}‏، أي‏:‏ ما يؤول إليه أمره؛ من تبين صدقه، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد، بقيام الساعة وما بعدها، ‏{‏يوم يأتي تأويلُه‏}‏؛ بظهور ما نطق به، ‏{‏يقول الذين نَسُوه من قبل‏}‏، ولم يؤمنوا به‏:‏ ‏{‏قد جاءت رسُل ربنا بالحق‏}‏ أي‏:‏ قد تبين أنهم جاؤوا بالحق، وحصل لهم اليقين حيث لم ينفع، ثم طلبوا من يشفع فيهم فقالوا‏:‏ ‏{‏فهل لنا من شفعاءَ فيشفعوا لنا‏}‏ اليوم، ‏{‏أو نُردُّ‏}‏ أي‏:‏ وهل نرد إلى الدنيا ‏{‏فنعملَ غيرَ الذي كنا نعملُ‏}‏ فنستبدل الكفر بالإيمان، والعصيان بالطاعة والإذعان، أو‏:‏ فيشفعوا لنا في أحد الأمرين‏:‏ إما السلامة من العذاب، أو الرد إلى الدنيا فنستبدل الكفر بالإيمان‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد خسروا أنفسهم‏}‏؛ أي‏:‏ بخسوها بسوء أعمالهم وكفرهم، ‏{‏وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي‏:‏ غاب عنهم افتراؤهم فلم ينفعهم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلي الكبير، وأفاض عليهم من ماء غيبه، حتى امتلأت قلوبهم وأسرارهم، فأثمر لهم العلوم اللدنية والأسرار الربانية؛ ناداهم أهل البطالة والتقصير‏:‏ أفيضوا علينا من الماء الذي سقاكم الله منه، أو مما رزقكم من العلوم والمعارف‏.‏

قالوا‏:‏ إن الله حرمهما على البطالين؛ الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى‏:‏ فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء؛ فقلنا فيه‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 106‏]‏ إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله‏؟‏ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم‏.‏‏.‏ هيهات‏!‏ قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون‏.‏ جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏حثيثًا‏}‏ أي‏:‏ سريعًا؛ صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ طلبًا حثيثًان أو حال من الفاعل، أي‏:‏ حاثًا، و‏{‏مسخراتٍ‏}‏ حال فيمن نصب، وخبر فيمن رفع، و‏{‏تضرعًا وخفية‏}‏‏:‏ مصدران، حالان من الواو، وكذلك ‏{‏خوفًا وطمعًا‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنَّ ربكم‏}‏ الذي يستحق أن تعبدوه، وهو ‏{‏اللهُ‏}‏ وحده ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ أظهرهما ‏{‏في ستة أيامٍ‏}‏ أي‏:‏ مقدار ستة أيام من أيام الدنيا؛ إذ لم يكن ثَمَّ شمس، ولو شاء خلقهن في لمحة، والعدول إليه؛ لتعليم خلقه التأني والتثبت‏.‏

‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ استواء يليق به، والعرش‏:‏ جسم عظيم محيط بالأكوان‏.‏ سمي به؛ لارتفاعه، وللتشبيه بسرير الملك، فالأكوان في جوفه ممحوقة؛ فقد استولى عليها ومحقها، كذلك أسرار معاني الربوبية الأزلية قد استولت عليه وحقته، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبَّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله‏.‏

وقال القشيري‏:‏ ثم استوى على العرش، أي‏:‏ تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت، وملوكنا إذا أرادوا التجلِّي والظهور للحَشَم والرعية؛ برزوا لهم على سرير مُلكِهم في إيوان مشاهدتهم‏.‏ فأخبر الحقُّ سبحانه وتعالى بما يَقرُب من فَهم الخلقِ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات، بأنه استوى على العرش، ومعناه‏:‏ اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية، وتقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار، والمعبودُ عن الحدود‏.‏ ه‏.‏

‏{‏يُغشي الليلَ النهارَ‏}‏ أي‏:‏ يُغطي نور النهار بظلمةِ الليل، ‏{‏يطلبه حثيثًا‏}‏ أي‏:‏ يعقبه سريعًا؛ كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء، ‏{‏و‏}‏ خلق ‏{‏الشمسَ والقمرَ والنجومَ مُسخرات بأمره‏}‏ أي‏:‏ بقضائه وتصريفه، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية، دالة على ظهور شيء منها‏.‏

والنهي عن النظر في النجوم أو تصديق المنجمين؛ إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها، أو تصديقهم في تفصيل ما يخبرون به؛ لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل، فإنَّ عِلم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء، ثم اندرس ذلك العلم، فلم يبق إلا ما هو مختلط، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابًا لآثار يخلق الله تعالى بها في الأرض، وفي النبات والحيوان شيئًا، يعني في الجملة ليس قادحًا في الدين، بل هو الحق، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل‏:‏ قادر في الدين، فالكواكب ما خلقت عبثًا، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء وقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 191‏]‏ الآية‏.‏ انظر الإحياء للغزالي‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا له الخلقُ والأمرُ‏}‏ أي‏:‏ الإيجاد والتصرف بالأمر والنهي، ‏{‏تبارك الله رب العالمين‏}‏ أي‏:‏ تعاظم في ألوهيته، وتعالى في ربوبيته، وتفرد في وحدانيته‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ‏(‏وتحقيق الآية والله أعلم أن الكفرة كانوا متخذين أربابًا، فبيَّن لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى؛ لأنه الذي له الخلق والأمر، فإنه تعالى خلق العالَم على ترتيب قويم، وتدبير حكيم؛ فأبدع الأفلاك العلوية، والأجرام السفلية، ثم بعد تمام خلق عالَم الملك أخذ في تدبيره؛ كالملِكِ الجالس على عرشه وسريره لتدبير مملكته، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب، وتكوير الليالي والأيام، فله الخلق والأمر‏.‏ وكذلك قال في آية السجدة بعد ذكر الخلق‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِرُ الأَمْرَ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 3، السجدة‏:‏ 4‏]‏، فربُّ الخلائق‏:‏ مَن هذا صفته، لا غيره، انتهى المعنى‏.‏

ثم أمرهم بأن يدعوه، متذللين مخلصين، فقال‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم تضرعًا وخُفيةً‏}‏ أي‏:‏ ذوي تضرع وخفاء؛ فإن الإخفاء دليل الإخلاص، ‏{‏إنه لا يحب المعتدين‏}‏ المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، ونبه على أن الداعي ينبغي ألاَّ يطلب ما لا يليق به؛ كرتبة الأنبياء، وقيل‏:‏ الاعتداء في الدعاء، هو الصياح به، والتشدق، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سَيَكُونُ قَومٌ يَعتَدُونَ في الدّعَاءِ، وحَسبُ المَرء أن يَقُولَ‏:‏ اللَّهُمَّ إنَّي أسألُكَ الجَنَّةَ ومَا يُقرِّبُ إليهَا من قَولٍ وعَمَلٍ‏.‏ ثم قرأ ‏{‏إنَّه لا يُحبُّ المُعتَدِين‏}‏»‏.‏

‏{‏ولا تُفسدوا في الأرض‏}‏ بالكفر والمعاصي، ‏{‏بعد إصلاحها‏}‏ ببعث الأنبياء، وشرع الأحكام، أو‏:‏ ولا تفسدوا في الأرض بالمعاصي الموجبة لفساد العالم بالقحط والفتن، بعد إصلاحها بالخصب والأمان، ‏{‏وادعوه خوفًا وطمعًا‏}‏ أي‏:‏ خوفًا من الرد لقصور الأعمال، وطمعًا في القبول بالفضل والكرم؛ ‏{‏إن رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين‏}‏ المخلصين‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ هو ترجيح للطمع، وتنبيه على ما يتوصل به إلى الإجابة، وتذكير قريب؛ لأن الرحمة بمعنى الترحم، أو لأنه صفة محذوف؛ أي‏:‏ أمر قريب، أو على تشبيه فعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو للفرق بين القريب من النسب، والقريب من غيره‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ والأحسن أنه إنما ذكره؛ لأن المراد بالرحمة هنا‏:‏ سر الخصوصية، وهو مذكر، فراعى معنى اللفظ، كأنه قال‏:‏ إن سر الولاية وهي الخصوصية قريب من المحسنين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في ستة أيام‏}‏‏:‏ قال الورتجبي‏:‏ في كل يوم من هذه الأيام‏:‏ ظهور صفة من صفاته الست‏:‏ أولها‏:‏ العلم، والثاني‏:‏ القدرة‏:‏ والثالث‏:‏ السمع، والرابع‏:‏ والبصر، والخامس‏:‏ الكلام، والسادس‏:‏ الإرادة، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة، ولما أتمها صارت الحدثان؛ كجسد آدم بلا روح، فتجلى من صفته السابعة‏.‏ وهي حياته القديمة الأزلية الباقية، المنزهة عن همهمة الأنفاس والمشابهة والقياس فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته، ويكون إلى الأبد؛ لحياتها بروح حياته، المقدسة عن الاتصال والانفصال‏.‏ قلت‏:‏ وهي المعبَّر عنها بالمعاني القائمة بالأواني‏.‏

ثم قال‏:‏ وفي أدق الإشارة‏:‏ السماوات‏:‏ الأرواح، والأرض‏:‏ الأشباح، والعرش‏:‏ القلوب، بدأ بكشف الصفات للأرواح، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب؛ لأن مناظر القلوب للغيوب، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم، استوى قهر القدم، بنعت الظهور للعدم، أي‏:‏ فتلاشى العدم، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال، واستوى تجلّي الذات على الصفات، فاستوى بنفسه لنفسه، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان‏.‏

قلت‏:‏ أي‏:‏ إذ لا حدثان ولا أكوان؛ لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت، وما بقي إلا نعت القدم‏.‏

ثم قال‏:‏ خصَّ السماوات والأرض بتجلي الصفات، وخص العرش بتجلي الذات‏.‏ قلت‏:‏ لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء، وهو حجاب الحس الظاهر، بخلاف المعاني القائمة بالأواني، وهي أنوار الصفات، تجلت مرتدية بحجاب القهرية، فقيل لها‏:‏ تجلي الصفات‏.‏

ثم قال‏:‏ السماوات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات؛ لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي‏:‏ هذا عالم يسمى عرشًا‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وأقرب من هذا كله‏:‏ أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق جل جلاله عن استيلاء هذه العظمة التي هي أسرار الربوبية على العرش بالاستواء‏.‏ وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله‏:‏ «يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبًا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محقت الآثار بالآثار، ومحوت الآثار وهي العرش وما احتوى عليه بمحيطات أفلاك الأنوار» وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية؛ لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تفارق الموصوف، فافهم‏.‏

قلت‏:‏ ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستعبد أن يكون الحق جل جلاله يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته‏.‏ وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا من أسرار التوحيد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء، وأطال فيهما، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر، وقد تقرر في محله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏}‏‏:‏ هو تقييد لقوله‏:‏ ‏{‏يختص برحمته من يشاء‏}‏؛ فالمختص بالرحمة هم المحسنون‏.‏ انظر لفظ الحكم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏نُشُرًا‏)‏‏:‏ حال من الرياح، وهو جمع نشور، بمعنى ناشر، ومن قرأ بسكون الشين، فهو تخفيف منه، ومن قرأ بفتح النون، فمصدر في موضع الحال، بمعنى‏:‏ ناشرات، أو مفعول مطلق؛ فإن الإرسال والنشر متقاربان، ومن قرأه بالباء وسكون الشين فهو جمع بشير، مخفف، و‏(‏أقَلَّت‏)‏‏:‏ مشتق من القلة؛ لأن الحامل للشيء يستقله، و‏(‏ثقالاً‏)‏‏:‏ جمع؛ لأن السحاب جمع بمعنى السحائب‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح‏}‏ أو الريح ‏(‏نُشْرًا‏)‏ أي‏:‏ تنشر السحاب، وتفرقه إلى الأرض التي أراد الله أن تمطر، أو بشارة بالمطر، ‏{‏بين يدي رحمته‏}‏ أي‏:‏ قبل نزول المطر، فهي قدامَه؛ فإن الصبا تثير السحاب، والشمال تجمعه، والجنوب تذره، والدبور تُفرقه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏حتى إذا أقلَّت‏}‏ أي‏:‏ حملت ‏{‏سحابًا ثِقالاً‏}‏ بالماء؛ لأنها تحمل الماء فتثقل به، ‏{‏سُقناه‏}‏ أي‏:‏ السحاب بما اشتمل عليه من الماء، ‏{‏لبلدٍ ميِّتٍ‏}‏ أي‏:‏ لإحيائه أو لسَقيه بعد يبسه، كأنه ميت، ‏{‏فأنزلنا به‏}‏ أي‏:‏ بالبلد، أو بالسحاب، أو بالسوق، أو بالريح، ‏{‏الماء‏}‏ الذي في السحاب، ‏{‏فأخرجنا به‏}‏ أي‏:‏ الماء، ‏{‏من كل الثمرات‏}‏ من كل أنواعها وأصنافها، ‏{‏كذلك نُخرج الموتى‏}‏ من القبور، أي‏:‏ كما نُحيي البلد بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات ‏{‏كذلك نُخرج الموتى‏}‏ من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقُوى الحسية‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

وقال ابن جزي‏:‏ هو تمثيل لإخراج الموتى من القبور بإخراج الزرع من الأرض، وقد وقع ذلك في القرآن في مواضع منها‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ النُّشُورُ‏}‏ ‏[‏فَاطِر‏:‏ 9‏]‏، و‏{‏كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏}‏ ‏[‏قَ‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏لعلكم تذكَّرون‏}‏؛ فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على إحياء الموتى، إذ لا فرق‏.‏

‏{‏والبلدُ الطيب‏}‏ أي‏:‏ الأرض الكريمة والتراب الجيد ‏{‏يَخرج نباتُه‏}‏ بسهولة، حسنًا قويًا نضرًا، ‏{‏بإذن ربه‏}‏ أي‏:‏ بمشيئته وقدرته، ‏{‏والذي خبُث‏}‏ من الأرض؛ كالحرة والسبخة، ‏{‏لا يخرج إلا نَكِدًا‏}‏؛ قليلاً عديم النفع، أو عسيرًا بمشقة، ‏{‏كذلك نُصرِفَ الآيات‏}‏؛ نُكررها ونُرددها ‏{‏لقوم يشكرون‏}‏ نعمة الله، فيتفكرون فيها، ويعتبرون بها‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأسًا ولم يتأثر بها، ومثلُه في البخاري في حديث طويل‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ هو ضرب مثل للمؤمن والكافر‏.‏ وقال ابن جزي‏:‏ يحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر، وأن تكون تمثيلاً للقلوب؛ فالطيب‏:‏ قلب المؤمن، والخبيث‏:‏ قلب الكافر، وقيل‏:‏ هما للفِهم والبليد‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ وهو الذي يرسل رياح الهداية، تنشر سحاب الواردات الإلهية والنفحات الربانية، بين يدي معرفته، أو تُبشر بها قبل وصولها، حتى إذا أقلت سحابًا ثقالاً بالعلوم اللدنية، سقناه لقلبٍ ميت بالجهل والهوى، فأنزلنا مما فيه من ماء ذلك الأمطار، فأخرجنا به من ثمرت العلوم وأزهار الحِكَم ونوار اليقين‏.‏

وفي الحكم‏:‏ «لا تزكين واردًا لم تعلم ثمرته، فليس المقصود من السحابة الأمطار، وإنما المقصود وجود الأثمار»‏.‏ ‏{‏كذلك نخرج الموتى‏}‏ أي‏:‏ نحيي القلوب الموتى بالجهل، ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏‏.‏ والبلد الطيب، وهو القلب الطيب، إذا هبت عليه هذه الواردات، ونزلت فيه أمطار النفحات، يُخرج نباته من العلوم والمعارف بإذن ربه، والذي خبث من القلوب لا يخرج ما فيه إلا نكدًا أي‏:‏ ضعيفًا؛ لعدم تأثره بالواردات والمواعظ‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ ذكر سبحانه القلب الذي هو بلد الله الذي مُطر عليه من بحر امتنانه، ويخرج نبات ألوان الحالات والمقامات‏.‏ ثم قال‏:‏ وكل قلب بذره الهوى فنباته الشهوات‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 64‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أوَ عَجبتم‏}‏‏:‏ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، أي‏:‏ أكذبتم وعجبتم، و‏{‏في الفلك‏}‏‏:‏ يتعلق بأنجينا، أو بمن معه، أو حال من الموصول‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه‏}‏، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أدريس، نبىء بعده، بعث ابن خمسين سنة أو أربعين، وعاش ألفًا وثلاثمائة سنة، ‏{‏فقال يا قوم اعبدوا الله‏}‏ وحده ‏{‏ما لكم من إله غيرُه‏}‏ يستحق أن يُعبد، ‏{‏إني أخاف عليكم‏}‏، إن لم تُؤمنوا وتُوحدوا الله ‏{‏عذابَ يوم عظيم‏}‏ وهو يوم القيامة، أو يوم نزول الطوفان‏.‏

‏{‏قال الملأُ‏}‏ أي‏:‏ الأشراف ‏{‏من قومه‏}‏؛ لأنهم يملأون العيون عند رؤيتهم، قالوا له‏:‏ ‏{‏إنا لنَراكَ في ضلالٍ مبين‏}‏ أي‏:‏ في خطأ بيِّن عن الحق، ‏{‏قال يا قوم ليس بي ضلالةٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس بي شيء من الضلال، بالغ لهم في النفي كما بالغوا له في الإثبات، وعرض لهم به، وتلطف لهم في القول، ‏{‏ولكني رسولُ من ربّ العالمين‏}‏ أي‏:‏ لست في ضلال كما اعتقدتم، ولكني في غاية من الهدى؛ لأني رسول من رب العالمين، ‏{‏أبلغكم رسالاتِ ربي‏}‏ كما أمرني، ‏{‏وأنصحُ لكم‏}‏ جُهدي، ‏{‏وأعلمُ من الله ما لا تعلمون‏}‏ من صفاته الجلالية والجمالية ومن رحمته وعذابه، أو من قدرته وشدة بطشه، أو أعلم من جهة وحيه أشياء لا علم لكم بها، وجمع الرسالات؛ لاختلاف أوقاتها، أو لتنوع معانيها، كعلم العقائد والمواعظ والأحكام‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏أو عَجبتُم‏}‏ أي‏:‏ أكذبتم وعجبتم من ‏{‏أن جاءكم ذِكرٌ‏}‏ أي‏:‏ تذكير ووعظ ‏{‏من ربكم‏}‏ ‏{‏على‏}‏ لسان ‏{‏رجل منكم‏}‏ أي‏:‏ من جملتكم، أو من جنسكم؛ كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَآءَ اللهُ لأَنزَلَ مَلآئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابآئِنَا الأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏، قال القشيري‏:‏ عجبوا مِن كونِ شخص رسولاً، ولم يَعجبوا من كون الصنم شريكًا لله، هذا فَرطُ الجهالة وغاية الغواية‏.‏ ه‏.‏ وحكمة إرساله؛ كونه جاءكم ‏{‏لينذركم‏}‏ عاقبة الكفر والمعاصي، ‏{‏ولتتقوا‏}‏ الله بسبب تلك الإنذار، ‏{‏ولعلكم ترحمون‏}‏ بتلك التقوى، وفائدة حرف الترجي؛ التنبهُ على أن التقوى غير مُوجب للترحم بذاته، وإنما هو أي‏:‏ الترحم فضل من الله، وأن المتقي ينبغي ألا يعتمد على تقواه، ولا يأمَن من عذاب الله‏.‏

‏{‏فكذبوه فأنجيناه والذين معه‏}‏ هو ومن آمن به، وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل‏:‏ عشرة، وقيل‏:‏ ثمانية، حَملناهم ‏{‏في الفلك‏}‏ أي‏:‏ السفينة، ‏{‏وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ بالطوفان؛ ‏{‏إنهم كانوا قومًا عَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ عُمي القلوب، غير مستبصرين، وأصله‏:‏ عَميين، مخفف‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ الشريعة المحمدية‏:‏ سفينة نوح عليه السلام، فمن ركب بحر الحقائق وحاد عنها؛ حال بينه وبينها الموج فكان من المغرقين في بحر الزندقة والكفر، ومن تمسك بها في ذلك كان من الناجحين الفائزين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 72‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أخاهم‏}‏‏:‏ عطف على نوح، و‏{‏هودًا‏}‏‏:‏ عطف بيان أو بدل، وكذلك ‏{‏أخاهم صالحًا‏}‏ وما بعده؛ حيث وقع‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إلى‏}‏ قبيلة ‏{‏عادٍ أخاهم‏}‏ أي‏:‏ واحد من قبيلتهم، كقولهم‏:‏ يا أخا العرب، فإنه هود بن عبدالله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقيل‏:‏ هو هود بن شاح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهو ابن عم أبي عاد، وإنما أرسل إليهم منهم لأنهم أفهم لقوله، وأعرف بحاله، وأرغب في أتباعه، ثم وعظهم فقال‏:‏ ‏{‏يا قوم اعبدوا الله‏}‏ وحده؛ ‏{‏ما لكم من إله غيره أفلا تتقون‏}‏ عذاب الله، ‏{‏قال الملأ الذين كفروا من قومه‏}‏، كان قومه أحسن من قوم نوح، إذ كان من أشرافهم من آمن به؛ كمرثد بن سعد، ولذلك قيد الملأ بمن كفر، بخلاف قوم نوح؛ لم يكن أحد منهم آمن به، فأطلق الملأ، قالوا لهود عليه السلام‏:‏ ‏{‏إنا لنراك في سفاهة‏}‏ أي‏:‏ متمكنًا في خفة العقل، راسخًا فيها، حيث فَارَقتَ دين قومك، ‏{‏وإنا لنظنك من الكاذبين‏}‏ في ادعاء الرسالة‏.‏

‏{‏قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من ربّ العالمين أُبلغكم رسالاتِ ربي وأنا لكم ناصح أمين‏}‏، يحتمل أن يريد أمانته على الوحي، أو أنهم كانوا قد عرفوه بالأمانة والصدق قبل الرسالة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أوَ عجبتم‏}‏ من ‏{‏أن جاءكم ذِكرٌ من ربكم على رجل منكم لينذركم‏}‏، تقدم تفسيرها‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وفي ذكر إجابة الأنبياء الكفرةَ عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا به والإعراض عن مقالتهم‏:‏ كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأنا لكم ناصح أمين‏}‏‏:‏ تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين‏.‏ ه‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ في مساكنهم، أو خلفاء في الأرض من بعدهم بأن جعلكم ملوكًا، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى بحر عمان، خوفهم أولاً من عقاب الله، ثم ذكرهم بإنعامه؛ ‏{‏وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ أي‏:‏ قامة وقوة، فكانوا عظام الأجساد، فكان أصغرهم‏:‏ ستين ذراعًا، وأطولهم‏:‏ مائة ذراع‏.‏ ‏{‏فاذكروا آلاء الله‏}‏ أي‏:‏ نعمه، تعميم بعد تخصيص، ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ أي‏:‏ لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح، ومن شكرها‏:‏ الإيمان برسولهم‏.‏

‏{‏قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونَذَرَ ما كان يعبد آباؤنا‏}‏ من الأصنام، استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما وجدوا عليه آباءهم؛ انهماكًا في التقليد، وحبًا لما ألفوه مع اعترافهم بالربوبية، ولذلك قال لهم هود عليه السلام‏:‏ ‏{‏قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب‏}‏، بعد أن قالوا‏:‏ ‏{‏فأْتنا بما تعدنا‏}‏ من العذاب ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ فيه‏.‏

‏{‏قال قد وقع‏}‏ أي‏:‏ وجب ‏{‏عليكم من ربكم رجسٌ‏}‏؛ عذاب ‏{‏وغضب‏}‏ إرادة الانتقام، ‏{‏أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ أي‏:‏ أتجادلونيي في عبادة مسميات أسماء، ففي الكلام حذف‏.‏ وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏سميتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ أي‏:‏ جعلتم لها أسماء، فدل ذلك على أنها محدثة، فلا يصح أن تكون آلهة، أو سميتموها آلهة من غير دليل، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏ما نزَّل اللهُ بها من سلطان‏}‏ أي‏:‏ حجة تدل على استحقاقها للعبادة، فالمجادلة يحتمل أن تكون في عبادتها، أو في تسميتها آلهة، والمراد بالاسم على الأول المسمى، وعلى الثاني‏:‏ التسمية‏.‏ قاله ابن جزي‏:‏ ‏{‏فانتظروا‏}‏ نزول العذاب، الذي طلبتم حين أصررتم على العناد، ‏{‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ نزوله‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنجيناه والذين معه برحمة منا‏}‏ عليهم‏.‏ قال القشيري‏:‏ لا رتبةَ فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة، وقد أخبر سبحانه‏:‏ أنه نجَّى هودًا برحمته، وكذا نجَّى الذين آمنوا معه برحمته، ليُعلَم أن النجاة لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون ابتداء فضلٍ من الله ورحمة، فما نَجَا مَن نَجَا إلا بفضل الله سبحانه وتعالى‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وقطعنا دابر الذين كذَّبوا بآياتنا‏}‏ أي‏:‏ استأصلناهم، ‏{‏وما كانوا مؤمنين‏}‏، تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نَجَا وبين من هلك‏:‏ هو الإيمان‏.‏

رُوِي أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم هودًا فكذبوه، وزادوا عتوا، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذٍ، مسلمهم ومشركهم، إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه «قيل بن عنز»، ومرثد بن سعد، في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة؛ أولاد عمليق بن لاود بن سام، وسيدهم‏:‏ معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه، وهو بظاهر مكة، أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنى عليهم الجرادتان قَينَتَانِ له فلما رأى ذهولهم عما بعثوا له أهمه ذلك، واستحيا أن يكلمهم فيه؛ مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم، فعلم المغنيتين بيتين من الشعر، وأمرهما أن تغنيا به وهما‏:‏

ألاَ قَيلُ ويَحكَ، قُم، فَهَينِم *** لَعلَّ الله يسقِينَا الغَمَامَا

فيسقيِ أرضَ عَادٍ، إنَّ عَادًا *** قَدَ امسَوا لاَ يُبِينُونَ الكَلامَا

فلما غنيتا به أزعجهم ذلك، فقال مرثد‏:‏ والله لا يُسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله، سقيتم، فقالوا لمعاوية‏:‏ أحبسه عنا، لا يقدمنّ معنا مكة؛ فإنه قد أتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل‏:‏ اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله سحابات ثلاثًا؛ بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء‏:‏ يا قيل؛ اختر لنفسك ولقومك‏.‏ فقال‏:‏ اخترت السوداء؛ فإنها أكثرهن ماءً، فخرجت إلىعاد من وادي المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا‏:‏ هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم، فيها ريح عقيم، فأهلكتهم، رُوِي أنها لما قربت من ديارهم حملت أنعامهم في الهواء، كأنها جراد، فاستمرت عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام، شدخَت رؤوسهم إلى الحجارة حتى هلكوا جميعًا، ونجا هو والمؤمنون معه، فأتوا مكة وعبدوا الله حتى هلكوا‏.‏

قاله البيضاوي وغيره‏.‏

وهاهنا بحث؛ وهو أن البيت إنما بناه إبراهيم عليه السلام حسبما في الصحيح، ولم تعمر مكة إلا بعد إنزال إسماعيل فيها، وهود كان قبل إبراهيم، والبيت حينئذٍ خرب، كان خربه الطوفان، فكيف يتوجهون إليه وهو لم يكن‏؟‏‏.‏

ويمكن الجواب‏:‏ بأنهم كانوا يلتجؤون إلى رسومه وخربته التي بقيت بعد الطوفان؛ لأن أول من بناه آدم عليه السلام فلما خربه الطوفان بقي أثره، فكانوا يتبركون به، وفي بعض التواريخ‏:‏ أن العماليق بنوه قبل إبراهيم، فكانوا يطوفون به ويتبركون، ثم هُدم، وبناه بعدهم خليل الله إبراهيم‏.‏ وبهذا إن صح- يزول الإشكال‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وأما من قال‏:‏ إن هودًا تعدد، فغير سديد‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تضمنت موعظة هود عليه السلام لقومه خصلتين، بهما النجاة من كل هول وشر، والفوز بكل خير، وهما‏:‏ التوحيد والتقوى، وهي الطاعة لله ولرسوله فيما جاء به من أمر ونهي‏.‏ فالتوحيد تطهير الباطن من الشرك الجلي والخفي، والتقوى‏:‏ حفظ الجوارح من المخالفة في السر والعلانية، وهاتان الخصلتان هما أساس الطريق ونهايته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 79‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏آية‏}‏‏:‏ حال، والعامل فيها‏:‏ الإشارة، و‏{‏بيوتًا‏}‏‏:‏ حال من الجبال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إلى ثمود‏}‏؛ قبيلة أخرى من العرب، سُموا باسم أبيهم الأكبر‏:‏ ثمود بن غابر بن إرم بن سام، وقيل‏:‏ سُموا به؛ لقلة ما بهم من التثميد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجرَ، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لاَ تدخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أن تَكُونُوا بَاكِينَ؛ مخافة أن يُصيبَكم مِثلُ مَا أصَابَهُم»‏.‏

أرسلنا إليهم ‏{‏أخاهم صالحًا‏}‏، وهو صالح بن عُبَيد بن أسف بن ماسَح بن عبيد بن حاذر بن ثمود‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ بعث الله صالحًا حين راهق الحلم‏.‏ وقال الكواشي‏:‏ أنه مات ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه ينذرهم عشرين‏.‏ ه‏.‏

‏{‏قال يا قوم اعبدوا ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم‏}‏؛ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي، وهي‏:‏ ‏{‏هذه ناقة الله لكم آية‏}‏؛ لأنها جاءت من عند الله بلا وسائط وأسباب، على ما سيأتي، ‏{‏فذروها‏}‏ أي‏:‏ اتركوها، ‏{‏تأكل في أرض الله‏}‏ العشب، ‏{‏ولا تمسوها بسوء‏}‏، نهى عن المس، الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى؛ مبالغةً في الأمر وإزاحة للعذر‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ ‏{‏فيأخذكم‏}‏ إن مستموها بسوء ‏{‏عذاب أليم‏}‏، وهو الهلاك بالصيحة‏.‏

‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم‏}‏ أي‏:‏ هيأ لكم القرار ‏{‏في الأرض‏}‏ أي‏:‏ أرض الحجاز، ‏{‏تتخذون من سهولها قصورًا‏}‏ أي‏:‏ تبنون مما انبسط منها قصورًا، فالسهل ضد الجبل، ‏{‏وتنحتون الجبال بيوتًا‏}‏ أي‏:‏ تنجُرون بيوتًا من الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء‏.‏ ‏{‏فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ بالمعاصي والكفر‏.‏

‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه‏}‏ عن الإيمان، ‏{‏للذين استضعفوا‏}‏ أي‏:‏ للذين استضعفوهم واستذلوهم أعني لمن آمن منهم‏:‏ ‏{‏أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه‏}‏ ‏؟‏، قالوه على وجه الاستهزاء، ‏{‏قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون‏}‏، لم يقولوا في الجواب‏:‏ نعم؛ تنبيهًا على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذي رأي، وإنما الكلام فيمن آمن ومن كفر؛ فلذلك قال‏:‏ ‏{‏قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون‏}‏؛ على المقابلة، ووضعوا ‏{‏آمنتم به‏}‏ موضع ‏{‏أُرسل به‏}‏؛ ردًا لما جعلوه معلومًا مسلمًا‏.‏

‏{‏فعقروا الناقة‏}‏؛ نحروها، أسند إلى جميعهم فعل بعضهم كما يأتي؛ لأنه كان برضاهم، ‏{‏وعتوا عن أمر ربهم‏}‏ أي‏:‏ استكبروا عن امتثال أمره، وهو ما بلغهم صالح بقوله‏:‏ ‏{‏فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء‏}‏، ‏{‏وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة‏}‏ أي‏:‏ صيحة جبريل، ‏{‏فأصبحوا في دارهم جاثمين‏}‏؛ باركين على ركبهم، ميتين‏.‏

رُوِي‏:‏ أنهم بعد عادٍ عمروا بلادهم وخلفوهم، وكثروا، وعُمروا أعمارًا طِوالاً لا تفي بها الأبنية، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في خِصب وسعة، فتعوا وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أشرافهم فأنذرهم، فسألوه آية، فقال لهم‏:‏ أيّ آية تريدون‏؟‏ فقالوا‏:‏ اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا، فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم، فدعوا أصنامهم فلم تجبهم، ثم أشار سيدهم «جندع بن عمرو» إلى صخرة منفردة يقال لها‏:‏ «الكاثبة»، قال له‏:‏ أخرج من هذه الصخرة ناقةً مخترجة جوفاء وبراء، فإن فعلت صدقناك، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم‏:‏ لئن فعلتُ ذلك لتؤمنن‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فصلى، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تَمَخَّضَ النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عُشَرَاءَ، جوفاء وبراء كما وَصَفُوا، وهم ينظرون، ثم أنتجت ولدًا مثلها في العظم، فآمن به جندع في جماعة، ومنع الناس من الإيمان‏:‏ ذُؤاب بن عمرو، والحباب صاحب أصنامهم، ورباب كاهنهم‏.‏

فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر، وترد الماء غِبًّا، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تنفحج، فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم، فيشربون ويدخرون، وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره؛ فشق ذلك عليهم، فزينت عقرها لهم «عنيزة أم غنم» وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، وعاقرها‏:‏ الأحمر، واسمه قدار «استعان برجل آخر، فلما شربت أختبأ لها في جانب تل، فضربها صاحبه بالسهم، وعقرها قدار بسيفه، واقتسموا لحمها، فرقى ولدها جبلاً اسمه‏:‏ قارة، فرغى ثلاثًا، ودخل صخرة أمه، فقال لهم صالح عليه السلام‏:‏ أدركوا الفصيل، عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة بعد رغائه، فقال لهم صالح عليه السلام‏:‏ تصبح وجوهكم غدًا مصفرة، وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ويصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين‏.‏ ولما كان ضحوة اليوم الرابع‏:‏ تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا‏.‏

‏{‏فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحتُ لكم ولكن لا تُحبون الناصحين‏}‏، ظاهره‏:‏ أن توليته عنهم بعد أن أبصرهم جاثمين؛ ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم، كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر، وقال لهم‏:‏» قد وَجَدنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا، فَهَل وَجَدتُم مَا وَعَدَ رَبُّكُم حَقًا‏؟‏ «أو ذَكَرَ ذلك على سبيل التحسّر عليهم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما قصّ علينا الحقّ جلّ جلاله من قصص الأمم الماضية، فالمراد به‏:‏ تخويف هذه الأمة المحمدية وزيادة في يقينهم، فالواجب على من أراد السلامة في الدارين أن يتمسك بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، ويتحرى في ذلك جهده؛ يقصد بذلك رضا الله ورسوله‏.‏ ‏{‏وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إلىَ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 101‏]‏، ومن سلك الطريق المستقيم وصل إلى النعيم المقيم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏شهوة‏}‏‏:‏ مفعول له، أو مصدر في موضع الحال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏لوطًا إذ قال لقومه‏}‏،؛ واعظًا لهم‏:‏ ‏{‏أتأتون الفاحشةَ‏}‏ أي‏:‏ اللواط؛ توبيخًا وتقريعًا على تلك الفعلة المتناهية في القبح، ‏{‏ما سبقكُم بها من أحدٍ من العالمين‏}‏ أي‏:‏ ما فعلها أحد قبلكم، وبخهم على أمرين‏:‏ إتيان الفاحشة، واختراعها أولاً، ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء‏}‏، وصفهم بالشهوة البهيمية، وفيه تنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة‏:‏ طلب الولد وإبقاء النوع لا قضاء الوطر، ‏{‏بل أنتم قومٌ مسرفون‏}‏ أي‏:‏ عادتكم السرف في كل شيء، حتى تجاوزتم ما أحل الله لكم من النساء إلى ما حرم عليكم من إيتان الذكور، وهو إضراب عن الإنكار إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها؛ وهي اعتياد الإسراف في كل شيء، أو عن الإنكار عليها إلى الذم لم على جميع معايبهم، أو عن محذوف، مثل‏:‏ لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏وما كان جواب قومه‏}‏ له حين وعظهم، ‏{‏إلا أن قالوا أخرجوهم‏}‏ أي‏:‏ لوط ومن آمن به، ‏{‏من قريتكم‏}‏ أي‏:‏ ما أجابوه بشيء يصلح للجواب، لكن قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه من قريتهم، والاستهزاء بهم، حيث قالوا‏:‏ ‏{‏إنهم أُناس يتطهرون‏}‏ من الفواحش‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنجيناه وأهله‏}‏ أي‏:‏ من آمن معه، ‏{‏إلا امرأته‏}‏ فإنها كانت تسر الكفر؛ ‏{‏كانت من الغابرين‏}‏ أي‏:‏ الباقين في ديارهم فهلكوا وهلكت معهم‏.‏

‏{‏وأمطرنا عليهم مطرًا‏}‏ أي‏:‏ نوعًا عجيبًا من المطر، بيَّنه بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبةُ المجرمين‏}‏‏.‏

رُوِي أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر عمه إبراهيم إلى الشام، ونزل بالأردن، وكان هاجر هو معه، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، ليدعوهم إلى الله، وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها، فقلع جيريل مدينتهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر الحجارة على ما قربهم من القرى، وسيأتي في سورة هود بقية قصتهم، إن شاء الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما أهلك اللهُ قوم لوط حيث آثروا شهوة نفوسهم على عبودية ربهم، وغلبهم الطبع البهيمي على مقتضى العقل الصافي، وقد تقدم الغزالي‏:‏ إن الشَّره إلى الوِقاع من جملة المهلكات‏.‏ فعلى المريد أن يصفي قصده، ولا ينزل إلى أرض الحظوظ إلا بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، ولا ينزل بالشهوة والمتعة‏.‏ وقد قال عليه السلام‏:‏ «المؤمن يأكل بشهوة أهله» فلا يأتي ما أحلَّ اللهُ لَهُ مِن متعة النِّساء إلا قيامًا بحقِّ الغَير وطلبًا للنسلِ‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 93‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏87‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏(‏88‏)‏ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ‏(‏89‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏90‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏91‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ‏(‏92‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إلى مدين أخاهم شعيبًا‏}‏، ومدين‏:‏ قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم، شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل، على ما قيل‏.‏ وقد تقدم في البقرة أن مدين ومدان من ولد إبراهيم عليه السلام، وشعيب هذا يسمى خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومه‏.‏

‏{‏قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهِ غيره قد جاءتكم بينةٌ من ربكم‏}‏ يريد المعجزة التي كانت له، وليس في القرآن بيان ما هي معجزته‏.‏ وحمل الواحدي البينة على الموعظة‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ ومن معجزات شعيب‏:‏ ما رُوِي من محاربة عصا موسى التنين، حين دفع إليه غنمه، وولادة الغنم الدرع خاصة، حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصا آدم في يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات‏.‏ ه‏.‏ وفيه نظر؛ لأن هذه وقعت بعد مقالته لقومه، وإنما كانت إرهاصات لموسى عليه السلام، وفي حديث البخاري‏:‏ «مَا بَعَثَ الله نَبِيًّا إلاَّ وآتاهُ مَا مِثلُه آمَنِ عليه البشرُ، وإنما كَان الذي أُوتِيتُه وحيًا، وأرجوُ أن أكون أكَثَرهُم تابعًا يومَ القيامَةِ» وهو صريح في أنه لا بد من الآية لكل رسول، ولعل الله تعالى لم يذكر معجزة شعيب وهود في القرآن مع وجودها؛ لظاهر الحديث‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏فأوفوا الكيلَ والميزانَ‏}‏، وكانوا مطففين، أي‏:‏ فأوفوا المكيال الذي هو آلة الكيل، أي‏:‏ كبروها؛ بدليل قوله‏:‏ ‏{‏والميزان‏}‏ الذي هو الآلة، ويحتمل أن يريد بهما المصدر، أي الكيل والوزن‏.‏

‏{‏ولا تَبخسوا الناس أشياءهم‏}‏ أي‏:‏ لا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال‏:‏ ‏{‏أشياءَهم‏}‏، للتعميم تنبيهًا على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير، والقليل والكثير، وقيل‏:‏ كانوا مكَّاسين لا يدعون شيئًا إلا مكسوه‏.‏ ‏{‏ولا تُفسدوا في الأرض‏}‏ بالكفر والظلم، ‏{‏بعد إصلاحها‏}‏ بإقامة الشرائع وظهور العدل، ‏{‏ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ذلك الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم من إبقائكم على ما أنتم عليه، ومعنى الخيرية‏:‏ الزيادة مطلقًا؛ إذ لا خير فيما هم فيه، أو‏:‏ في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏ولا تقعُدُوا بكل صِراطٍ‏}‏ أي‏:‏ طريق ‏{‏تُوعِدُون‏}‏ من أراد الإيمان بالعقوبة، وكانوا يجلسون على الطرقات والمراصد، يقولون لمن يريد شعيبًا‏:‏ إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك؛ ويوعدون من آمن، وقيل‏:‏ كانوا يقطعون الطريق‏.‏

‏{‏وتَصُدُّون عن سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ تصدون الناس عن طريق الله، وهو الإيمان به وبرسوله، وهو الذي قعدوا لأجله في كل طريق، وقوله‏:‏ ‏{‏من آمن به‏}‏؛ من أراد الإيمان به، أو من آمن حقيقة؛ كانوا يصدونه عن العمل، ‏{‏وتبغونها عِوَجًا‏}‏ أي‏:‏ وتطلبون لطريق الله عوجًا بإلقاء الشُّبَه فيها، أو بوصفها للناس بأنها مُعوَجَّة‏.‏

‏{‏واذكروا إذ كنتم قليلاً‏}‏ عَددهم وعُددكم ‏{‏فكثَّرَكُم‏}‏ بالبركة في النسل والمال، ‏{‏وانظروا كيف كان عاقبةِ المفسدين‏}‏ من الأمم قبلكم، فاعتبروا بهم‏.‏

‏{‏وإن كانت طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا‏}‏ أي‏:‏ تربصوا ‏{‏حتى يحكم اللهُ بيننا‏}‏ أي‏:‏ بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين، ‏{‏وهو خير الحاكمين‏}‏؛ إذ لا معقب لحكمه، ولا حيف فيه‏.‏

‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه‏}‏ في جوابه عن وعظه‏:‏ ‏{‏لنُخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتُعودنَّ في ملتنا‏}‏ أي‏:‏ ليكونن أحد الأمرين؛ إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر، وشعيب عليه السلام لم يكن في ملتهم قط؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر مطلقًا، لكنهم غلّبوا الجماعة على الواحد؛ فخُوطب هو وقومه بخطابهم، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله‏:‏ ‏{‏قال أوَ لو كنا كارهين‏}‏‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وعاد‏:‏ قد يكون بمعنى صار، فلا يقتضي تقدم ذلك المحال، قلت‏:‏ ويؤيده ما في حديث الجَهنميين‏:‏ «قد عادوا حممًا» أي‏:‏ صاروا‏.‏

ثم قال شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏قد افترينا على الله كذبًا إن عُدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها‏}‏ أي‏:‏ إن رجعنا إلى مثلكم بعد الخلاص منها، فقد اختلقنا على الله الكذب، وهذا كله في حق قومه كما تقدم‏.‏ ‏{‏وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربُّنا‏}‏ خذلاننا وارتدادنا، وفيه تسليم للإدارة المغيبة، والعلم المحيط، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء‏.‏ فإن قلت‏:‏ هو معصوم فلا يصح فيه العود‏؟‏ قاله أدبًا مع الربوبية، واستسلامًا لقهر الألوهية، كقول نبينا صلى الله عليه وسلم «يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلبي عَلَى دِينِكَ» ‏{‏وَسِع ربُّنا كلَّ شيءٍ علمًا‏}‏ أي‏:‏ أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم، ‏{‏على الله توكلنا‏}‏ في أن يثبتنا على الإيمان، ويخلصنا من الإشراك‏.‏ ‏{‏ربنا افتح بيننا‏}‏ أي‏:‏ احكم بيننا ‏{‏وبين قومنا بالحق‏}‏ بالعدل، بتمييز المحق من المبطل، ‏{‏وأنت خير الفاتحين‏}‏ أي الفاصلين‏.‏

‏{‏وقال الملأُ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتُم شعيبًا‏}‏ وتركتم دينكم ‏{‏إنكم إذًا‏}‏ أي‏:‏ إذا اتبعتموه ‏{‏لخاسرون‏}‏؛ لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم من البخس والتطفيف‏.‏ ‏{‏فأخذتهم الرجفةُ‏}‏ أي‏:‏ الزلزلة‏.‏ وفي سورة الحجر‏.‏

‏{‏الصيحة‏}‏، ولعلها كانت من مبادئها، ‏{‏فأصبحوا في دارهم‏}‏ أي‏:‏ في مدينتهم ‏{‏جاثمين‏}‏ باركين ميتين‏.‏

‏{‏الذين كذَّبوا شعيبًا كأن لم يَغنَوا فيها‏}‏ أي‏:‏ استؤصلوا كأنهم لم يقيموا فيها ساعة‏.‏ ‏{‏الذين كذَّبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين‏}‏ دينًا ودُنيا، بخلاف الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا؛ فإنهم الرابحون، ولأجل التنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول، واستأنف الجملتين وأتى بهما اسميتين‏.‏

‏{‏فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتُكم رسالات ربي ونصحتُ لكم‏}‏، قاله بعد هلاكهم، تأسفًا عليهم، ثم أنكر على نفسه فقال‏:‏ ‏{‏فكيف آسى على قومٍ كافرين‏}‏ ليسوا أهلاً للحزن عليهم، لاستحقاقهم ما نزل بهم‏.‏

الإشارة‏:‏ يؤخذ من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ أن إقامة الشرائع، وظهور الدين من علامة إصلاح الأرض وبهجتها، وخصبها وعافيتها، وترك الشرائع وظهور المعاصي من علامة فساد الأرض وخرابها‏.‏ ويؤخذ من قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقعدوا بكل صراط‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أن حض الناس على الإيمان ودلالتهم على الله من أفضل القربات عند الله، وأعظم الوسائل إلى الله‏.‏

ويؤخذ من قوله‏:‏ ‏{‏وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله‏}‏ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره‏.‏ وفي بعض الآثار القدسية‏:‏ «يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط» والله تعالى أعلم‏.‏